الفصل التاسع النظرية المادية للحياة ومفاسد هذه النظرية
هناك نظرتان للحياة : نظرة مادّيّة للحياة ، ونظرة صحيحة ، ولكل من النظرتين آثارها :
أ - فالنظرة الماديّة للحياة معناها :
أن يكون تفكير الإنسان مقصورًا على تحصيل ملذاته العاجلة ، ويكون عمله محصورًا في نطاق ذلك ، فلا يتجاوز تفكيره ما وراء ذلك من العواقب ، ولا يعمل له ، ولا يهتم بشأنه ، ولا يعلم أن الله جعل هذه الحياة الدنيا مزرعة للآخرة ، فجعل الدُّنيا دارَ عمل ، وجعل الآخرة دار جزاء ، فمن استغل دنياه بالعمل الصالح ربحَ الدارين ، ومن ضيّع دنياه ضاعت آخرته : خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ .
فالله لم يخلق هذه الدنيا عبثًا بل خلقها لحكمة عظيمة ، قال تعالى : الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا .
وقال تعالى : إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا .
أوجد سبحانه في هذه الحياة من المتع العاجلة ، والزينة الظاهرة من الأموال والأولاد ، والجاه والسلطان ، وسائر المستلذات ما لا يعلمه إلا الله .
فمن الناس - وهم الأكثر - من قَصَر نظرهُ على ظاهرها ومفاتنها ، ومتَّع نفسَهُ بها ، ولم يتأمل في سرها ، فانشغل بتحصيلها وجمعها والتمتع بها عن العمل لما بعدها ؛ بل ربما أنكر أن يكون هناك حياة غيرها ، كما قال تعالى : وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ .
وقد توعد الله تعالى مَنْ هذه نظرتُهُ للحياة ؛ فقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ .
وقال تعالى : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
وهذا الوعيد يشمل أصحابَ هذه النظرة ؛ سواء كانوا من الذين يعملون عمل الآخرة ؛ يريدون به الحياة الدنيا ، كالمنافقين والمرائين بأعمالهم ، أو كانوا من الكُفَّارِ الذين لا يؤمنون ببعث ولا حساب ، كحال أهل الجاهلية والمذاهب الهدامة من رأسمالية وشيوعية ، وعلمانية إلحادية ، وأولئك لم يعرفوا قدرَ الحياة ، ولا تعدو نظرتهم لها أن تكون كنظرة البهائم ، بل هم أضل سبيلًا ؛ لأنهم ألغَوا عقولهم ، وسخروا طاقاتهم ، وضيعوا أوقاتهم فيما لا يبقى لهم ، ولا يبقون له ، ولم يعملوا لمصيرهم الذي ينتظرهم ولا بُدَّ لهم منه .
والبهائم ليس لها مصيرٌ ينتظرها ، وليس لها عقول تفكر بها ، بخلاف أولئك ، ولهذا يقول تعالى فيها : أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا .
وقد وصف الله أهل هذه النظرة بعدم العلم ، قال تعالى : وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ .
فهم وإن كانوا أهل خبرة في المخترعات والصناعات ؛ فهم جُهَّالٌ لا يستحقون أن يُوصَفوا بالعلم ؛ لأن علمهم لم يتجاوز ظاهر الحياة الدنيا ، وهذا علم ناقص لا يستحق أصحابه أن يطلق عليهم هذا الوصف الشريف ، فيقال : العلماء ، وإنما يطلق هذا على أهل معرفة الله وخشيته ، كما قال تعالى : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ .
ومن النظرة المادية للحياة الدنيا : ما ذكره الله في قصة قارون ، وما آتاه الله من الكنوز : فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ .
فتمنَّوا مثله وغبطوه ، ووصفوه بالحظ العظيم بناءً على نظرتهم المادية ، وهذا كما هو الحال الآن في الدول الكافرة ، وما عندها من تقدّم صناعي واقتصادي ، فإنَّ ضعافَ الإيمان من المسلمين ينظرون إليهم نظرة إعجاب دون نظر إلى ما هم عليه من الكفر ، وما ينتظرهم من سوء المصير ، فتبعثهم هذه النظرة الخاطئة إلى تعظيم الكفار واحترامهم في نفوسهم ، والتشبه بهم في أخلاقهم وعاداتهم السيئة ، ولم يقلدوهم في الجد وإعداد القوة والشيء النافع من المخترعات والصناعات ، كما قال تعالى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ .
ب - النظرة الثانية للحياة : النظرة الصحيحة
وهي : أن يعتبر الإنسان ما في هذه الحياة من مال وسلطان وقوى مادية وسيلةً يُستعان بها لعمل الآخرة .
فالدنيا في الحقيقة لا تُذمُّ لذاتها ، وإنما يتوجه المدح والذّمّ إلى فعل العبد فيها ، فهي قنطرة ومعبر للآخرة ، ومنها زادُ الجنة ، وخيرُ عيش ينالُه أهل الجنة إنَّما حصل لهم بما زرعوه في الدنيا .
فهي دار الجهاد ، والصلاة والصيام ، والإنفاق في سبيل الله ، ومضمار التسابق إلى الخيرات .
يقول الله تعالى لأهل الجنة : كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ يعني : الدنيا